الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب إسلام سعيد بن زيد) أي ابن عمرو بن نفيل، وأبو تقدم ذكره وأنه ابن ابن عم عمر بن الخطاب. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد؛ وقيل هو ابن أبي حازم. قوله: (لقد رأيتني) بضم المثناة، والمعنى رأيت نفسي (وإن عمر لموثقي على الإسلام) أي ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزاما بالرجوع عن الإسلام. وقال الكرماني في معناه: كان يثبتني على الإسلام ويسددني، كذا قال، وكأنه ذهل عن قوله هنا " قبل أن يسلم"، فإن وقوع التثبيت منه وهو كافر لضمره على الإسلام بعيد جدا، مع أنه خلاف الواقع، وسيأتي في كتاب الإكراه " باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر " وكأن السبب في ذلك أنه كان زوج فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولهذا ذكر في آخر باب إسلام عمر " رأيتني موثقي عمر على الإسلام أنا وأخته " وكان إسلام عمر متأخرا عن إسلام أخته وزوجها، لأن أول الباعث له على دخوله في الإسلام ما سمع في بيتها من القرآن في قصة طويلة ذكرها الدار قطني وغيره. قوله: (ولو أن أحدا ارفض) أي زال من مكانه، في الرواية الآتية " انقض " بالنون والقاف بدل الراء والفاء أي سقط، وزعم ابن التين أنه أرجح الروايات. وفي رواية الكشميهني بالنون والفاء وهو بمعنى الأول. قوله: (لكان) في الرواية الآتية " لكان محقوقا أن ينقض " وفي رواية الإسماعيلي " لكان حقيقا " أي واجبا تقول حق عليك أن تفعل كذا وأنت حقيق أن تفعله، وإنما قال ذلك سعيد لعظم قتل عثمان، وهو مأخوذ من قوله تعالى: وقال الداودي: معناه لو تحركت القبائل وطلبت بثار عثمان لكان أهلا لذلك، وهذا بعيد من التأويل. *3* الشرح: قوله: (باب إسلام عمر بن الخطاب) قد تقدم نسبه في مناقبه. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ الشرح: قوله: (أنبأنا سفيان) هو الثوري. قوله: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) زاد الإسماعيلي من طريق أبي داود الحفري عن سفيان في حديث ذكره أي من كلام ابن مسعود، وقد تقدم في مناقب عمر الإلمام بشيء من ذلك. الحديث: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ فَأَخْبَرَنِي جَدِّي زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُ مَا بَالُكَ قَالَ زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ قَالَ لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ الْوَادِي فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُونَ فَقَالُوا نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا قَالَ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ الشرح: قوله: (فأخبرني جدي) ظاهر السياق أنه معطوف على شيء تقدم، وقد رواه الإسماعيلي من طريق ابن وهب هذه فقال فيها عن ابن وهب " أخبرني عمر بن محمد". قوله: (وعليه حلة حبر) بكسر المهملة وفتح الموحدة وهو برد مخطط بالوشي. وفي رواية حبرة بزيادة هاء. قوله: (أن أسلمت) بفتح الألف وتخفيف النون أي لأجل إسلامي. قوله: (لا سبيل عليك بعد أن قالها) أي الكلمة المذكورة، وهي قوله: " لا سبيل عليك". قوله: (أمنت) بفتح الهمزة وكسر الميم وسكون النون وضم المثناة أي حصل الأمان في نفسي بقوله ذلك، ووقع في رواية الأصيلي بمد الهمزة، وهو خطأ فإنه كان قد أسلم قبل ذلك، ذكر عياض أن في رواية الحميدي بالقصر أيضا لكنه بفتح المثناة، وهو خطأ أيضا لأنه يصير من كلام العاص بن وائل، وليس كذلك بل هو من كلام عمر، يريد أنه أمن لما قال له العاص بن وائل تلك المقالة، ويؤيده الحديث الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُهُ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ دَارِهِ وَقَالُوا صَبَا عُمَرُ وَأَنَا غُلَامٌ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ فَقَالَ قَدْ صَبَا عُمَرُ فَمَا ذَاكَ فَأَنَا لَهُ جَارٌ قَالَ فَرَأَيْتُ النَّاسَ تَصَدَّعُوا عَنْهُ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ الشرح: قوله: (اجتمع الناس عند داره) في رواية الكشميهني " اجتمع الناس إليه". قوله: (وأنا غلام) في رواية أخرى أنه " كان ابن خمس سنين " وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو بسبع، لأن ابن عمر كما سيأتي في المغازي كان يوم أحد ابن أربع عشرة سنة وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة فيكون مولده بعد المبعث بسنتين. قوله: (على ظهر بيتي) قال الداودي هو غلط والمحفوظ " ظهر بيتنا " وتعقبه ابن التين بأن ابن عمر أراد أنه الآن بيته أي عند مقالته تلك، وكان قبل ذلك لأبيه. ولا يخفى عدم الاحتياج إلى هذا التأويل، وإنما نسب ابن عمر البيت إلى نفسه مجازا، أو مراده المكان الذي كان يأوي فيه سواء كان ملكه أم لا، وأيضا فإنه إن أراد نسبته إليه حال مقالته تلك لم يصح، لأن بني عدي بن كعب رهط عمر لما هاجروا استولى غيرهم على بيوتهم كما ذكره ابن إسحاق وغيره فلم يرجعوا فيها، وأيضا فإن ابن عمر لم ينفرد بالإرث من عمر فتحتاج دعوى أن يكون اشترى حصص غيره إلى نقل، فيتعين الذي قلته. قوله: (فما ذاك) أي فلا بأس، أو لا قتل أو لا يعترض له. وقوله: (أنا له جار) أي أجرته من أن يظلمه ظالم، وقوله: (تصدعوا) أي تفرقوا عنه. فقوله: (قالوا العاص بن وائل) زاد ابن أبي عمر في روايته عن سفيان قال: " فعجبت من عزته " وكذا عند الإسماعيلي من وجهين عن سفيان. وفي رواية عبد الله بن داود عن عمر بن محمد عند الإسماعيلي " فقلت لعمر: من الذي ردهم عنك يوم أسلمت؟ قال: يا بني، ذاك العاص بن وائل " أي ابن هاشم بن سعيد بالتصغير بن سهم القرشي السهمي، مات على كفره قبل الهجرة بمدة، والعاص بمهملتين من العوص لا من العصيان، والصاد مرفوعة ويجوز كسرها، وقيل: إنه من العصيان فهو بالكسر جزما، ويجوز إثبات الياء كالقاضي، ويؤيده كتاب عمر إلى عمرو وهو عامله على مصر " إلى العاصي ابن العاصي " وأطلق عليه ذلك لكونه خالف شيئا مما كان أمره به في ولايته على مصر لما ظهر له من المصلحة. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ مَا سَمِعْتُ عُمَرَ لِشَيْءٍ قَطُّ يَقُولُ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ عَلَيَّ الرَّجُلَ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتُقْبِلَ بِهِ رَجُلٌ مُسْلِمٌ قَالَ فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي قَالَ كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي السُّوقِ جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا قَالَ عُمَرُ صَدَقَ بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ قُلْتُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا ثُمَّ نَادَى يَا جَلِيحْ أَمْرٌ نَجِيحْ رَجُلٌ فَصِيحْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ هَذَا نَبِيٌّ الشرح: قوله: (حدثني عمر) هو ابن محمد بن زيد، وهو شيخ ابن وهب في الحديث الثاني، ووهم من زعم أنه عمر بن الحارث كالكلاباذي فقد وقع في رواية الإسماعيلي عن عمر بن محمد. قوله: (ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأظنه كذا إلا كان) أي عن شيء، واللام قد تأتي بمعنى عن كقوله: قوله: (إلا كان كما يظن) هو موافق لما تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال، وتقدم شرحه. قوله: (إذ مر به رجل جميل) هو سواد - بفتح المهملة وتخفيف الواو وآخره مهملة - ابن قارب بالقاف والموحدة، وهو سدوسي أو دوسي. وقد أخرج ابن أبي خيثمة وغيره من طريق أبي جعفر الباقر قال: " دخل رجل يقال له سواد بن قارب السدوسي على عمر، فقال. يا سواد أنشدك الله، هل تحسن من كهانتك شيئا " فذكر القصة. وأخرج الطبراني والحاكم وغيرهما من طريق محمد بن كعب القرظي قال: " بينما عمر قاعد في المسجد " فذكر مثل سياق أبي جعفر وأتم منه، وهما طريقان مرسلان يعضد أحدهما الآخر. وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني من طريق عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال: " أخبرني سواد بن قارب قال: كنت نائما " فذكر قصته الأولى دون قصته مع عمر. وهذا إن ثبت ذلك على تأخر وفاته، لكن عبادا ضعيف. ولابن شاهين من طريق أخرى ضعيفة عن أنس قال: " دخل رجل من دوس يقال له سواد بن قارب على النبي صلى الله عليه وسلم " فذكر قصته أيضا، وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض، وله طرق أخرى سأذكر ما فيها من فائدة. قوله: (لقد أخطأ ظني) في رواية ابن عمر عند البيهقي " لقد كنت ذا فراسة، وليس لي الآن رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر في الكهانة". قوله: (أو) بسكون الواو (على دين قومه في الجاهلية) أي مستمر على عبادة ما كانوا يعبدون. قوله: (أو) بسكون الواو أيضا (لقد كان كاهنهم) أي كان كاهن قومه. وحاصله أن عمر ظن شيئا مترددا بين شيئين أحدهما يتردد بين شيئين كأنه قال: هذا الظن إما خطأ أو صواب فإن كان صوابا فهذا الآن إما باق على كفره وإما كان كاهنا. وقد أظهر الحال القسم الأخير، وكأنه ظهرت له من صفة مشيه أو غير ذلك قرينة أثرت له ذلك الظن، فالله أعلم. قوله: (علي) بالتشديد (الرجل) بالنصب أي أحضروه إلي وقربوه مني. قوله: (فقال له ذلك) أي ما قاله في غيبته من التردد. وفي رواية محمد بن كعب " فقال له فأنت على ما كنت عليه من كهانتك " فغضب، وهذا من تلطف عمر، لأنه اقتصر على أحسن الأمرين. قوله: (ما رأيت كاليوم) أي رأيت شيئا مثل ما رأيت اليوم. قوله: (استقبل) بضم التاء على البناء للمجهول. قوله: (رجل مسلم) في رواية النسفي وأبي ذر " رجلا مسلما " ورأيته مجودا بفتح تاء " استقبل " على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره أحد، وضبطه الكرماني استقبل بضم التاء وأعرب رجلا مسلما على أنه مفعول رأيت، وعلى هذا فالضمير في قوله " به " يعود على الكلام، ويدل عليه السياق، وبينه البيهقي في رواية مرسلة " قد جاء الله بالإسلام، فما لنا ولذكر الجاهلية". قوله: (فإني أعزم عليك) أي ألزمك. وفي رواية محمد بن كعب " ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك". قوله: (إلا أخبرتني) أي ما أطلب منك إلا الإخبار. قوله: (كنت كاهنهم في الجاهلية) الكاهن الذي يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة، وكانوا في الجاهلية كثيرا، فمعظمهم كان يعتمد على تابعة من الجن، وبعضهم كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله، وهذا الأخير يسمى العراف بالمهملتين، وسيأتي حكم ذلك واضحا في كتاب الطب، وتقدم طرف منه في آخر البيوع. ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من أمر الشرك، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان سببا لإسلامه. قوله: (ما أعجب) بالضم و " ما " استفهامية. قوله: (جنيتك) بكسر الجيم والنون الثقيلة أي الواحدة من الجن كأنه أنت تحقيرا، ويحتمل أن يكون عرف أن تابع سواد منهم كان أنثى، أو هو كما يقال تابع الذكر يكون أنثى وبالعكس. قوله: (أعرف فيها الفزع) بفتح الفاء والزاي أي الخوف. وفي رواية محمد بن كعب " إن ذلك كان وهو بين النائم واليقظان". قوله: (ألم تر الجن وإبلاسها) بالموحدة والمهملة والمراد به اليأس ضد الرجاء. وفي رواية أبي جعفر " عجبت للجن وإبلاسها " وهو أشبه بإعراب بقية الشعر، ومثله لمحمد بن كعب لكن قال: " وتحساسها " بفتح المثناة وبمهملات، أي أنها فقدت أمرا فشرعت تفتش عليه. قوله: (ويأسها من بعد إنكاسها) اليأس بالتحتانية ضد الرجاء والإنكاس الانقلاب، قال ابن قارس: معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع. ووقع في شرح الداودي بتقديم السين على الكاف، وفسره بأنه المكان الذي ألفته، قال: ووقع في رواية " من بعد إيناسها " أي أنها كانت أنست بالاستراق، ولم أر ما قاله في شيء من الروايات، وقد شرح الكرماني على اللفظ الأول الذي ذكره الداودي وقال: الإنساك جمع نسك، والمراد به العبادة، ولم أر هذا القسيم في غير الطريق التي أخرجها البخاري. وزاد في رواية الباقر ومحمد بن كعب وكذا عند البيهقي موصولا من حديث البراء بن عازب بعد قوله: " وأحلاسها ": تهوي إلى مكة تبغي الهدى ما مؤمنوها مثل أرجاسها فاسم إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى رأسهـا وفي روايتهم أن الجني عاوده ثلاث ليال ينشده هذه الأبيات مع تغير قوافيها، فجعل بدل قوله إبلاسها " تطلابها " أوله مثناة، وتارة " تجآرها " بجيم وهمزة، وبدل قوله أحلاسها " أقتابها " بقاف ومثناة جمع قتب، وتارة " أكوارها " وبدل قوله. ما مؤمنوها مثل أرجاسها " ليس قداماها كأذنابها " وتارة " ليس ذوو الشر كأخيارها " وبدل قوله: رأسها " نابها " وتارة قال: " ما مؤمنو الجن ككفارها". وعندهم من الزيادة أيضا أنه في كل مرة يقول له " قد بعث محمد، فانهض إليه ترشد"، وفي الرواية المرسلة قال: " فارتعدت فرائصي حتى وقعت"، وعندهم جميعا أنه لما أصبح توجه إلى مكة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها: أتاني رئى بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك نبي من لؤي بن غالب يقول في آخرها: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب وفي آخر الرواية المرسلة " فالتزمه عمر وقال: لقد كنت أحب أن أسمع هذا منك". قوله: (ولحوقها بالقلاص وأحلاسها) القلاص بكسر القاف وبالمهملة جمع قلص بضمتين وهو جمع قلوص وهي الفتية من النياق، والأحلاس جمع حلس بكسر أوله وسكون ثانيه وبالمهملتين وهو ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. ووقع هذا القسيم غير موزون. وفي رواية الباقر " ورحلها العيس بأحلاسها " وهذا موزون، والعيس بكسر أوله وسكون التحتانية وبالمهملتين: الإبل. قوله: (قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم) ظاهر هذا أن الذي قص القصة الثانية هو عمر. وفي رواية ابن عمر وغيره أن الذي قصها هو سواد بن قارب، ولفظ ابن عمر عند البيهقي قال: " لقد رأى عمر رجلا - فذكر القصة - قال فأخبرني عن بعض ما رأيت، قال: إني ذات ليلة بواد إذ سمعت صائحا يقول: يا جليح، خبر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله. عجبت للجن وإبلاسها " فذكر القصة، ثم ساق من طريق أخرى مرسلة قال: " مر عمر برجل فقال: لقد كان هذا كاهنا " الحديث وفيه " فقال عمر أخبرني، فقال: نعم، بينا أنا جالس إذ قالت لي: ألم تر إلى الشياطين وإبلاسها " الحديث " قال عمر: الله أكبر، فقال: أتيت مكة فإذا برجل عند تلك الأنصاب " فذكر قصة العجل، وهذا يحتمل فيه ما احتمل في حديث الصحيح أن يكون القائل " أتيت مكة " هو عمر أو صاحب القصة. قوله: (عند آلهتهم) أي أصنامهم. قوله: (إذ جاء رجل) لم أقف على اسمه " لكن عند أحمد من وجه آخر أنه ابن عبس، فأخرج من طريق مجاهد عن شيخ أدرك الجاهلية يقال له ابن عبس قال: " كنت أسوق بقرة لنا، فسمعت من جوفها " فذكر الرجز قال: " فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث " ورجاله ثقات، وهو شاهد قوي لما في رواية ابن عمر وأن الذي حدث بذلك هو سواد بن قارب، وسأذكر بعد هذا ما يقوي أن الذي سمع ذلك هو عمر فيمكن أن يجمع بينهما بتعدد ذلك لهما. قوله: (يا جليح) بالجيم والمهملة بوزن عظيم ومعناه الوقح المكافح بالعداوة، قال ابن التين: يحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة قلت: ووقع في معظم الروايات التي أشرت إليها " يا آل ذريح " بالذال المعجمة والراء وآخره مهملة، وهم بطن مشهور في العرب. قوله: (رجل فصيح) من الفصاحة. وفي رواية الكشميهني بتحتانية أوله بدل الفاء من الصياح ووقع في حديث ابن عبس " قول فصيح رجل يصيح". قوله: (يقول لا إله إلا أنت) وفي رواية الكشميهني " لا إله إلا الله " وهو الذي في بقية الروايات. قوله: (فما نشبنا) بكسر المعجمة وسكون الموحدة أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، يريد أن ذلك كان بقرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. (تنبيهان) : أحدهما: ذكر ابن التين أن الذي سمعه سواد بن قارب من الجني كان من أثر استراق السمع، وفي جزمه بذلك نظر، والذي يظهر أن ذلك كان من أثر منع الجن من استراق السمع، ويبين ذلك ما أخرجه المصنف في الصلاة ويأتي في تفسير سورة الجن عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث منع الجن من استراق السمع، فضربوا المشارق والمغارب يبحثون عن سبب ذلك، حتى رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر " الحديث. (التنبيه الثاني) : لمح المصنف بإيراد هذه القصة في " باب إسلام عمر " بما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر من أن هذه القصة كانت سبب إسلامه، فروى أبو نعيم في " الدلائل " أن أبا جهل " جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم آلضمان صحيح؟ قال: نعم. قال فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح بلسان فصيح. قال عمر: فقلت في نفسي إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد " فذكر القصة في سبب إسلامه بطولها. وتأمل ما في إيراده حديث سعيد بن زيد الذي بعد هذا. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ الشرح: قوله: (انقض) بنون وقاف، وللكشميهني بفاء بدل القاف في الموضعين، ولأبي نعيم في " المستخرج " بالفاء والراء ومعانيها متقاربة، والله أعلم. (تنبيه) : جعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة، ولم يذكر انشقاق القمر، فاقتضى صنيع المصنف أنه وقع في تلك الأيام. وقد ذكر ابن إسحاق من وجه آخر أن إسلام عمر كان عقب هجرة الحبشة الأولى. الشرح: قوله: (باب انشقاق القمر) أي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المعجزة له، وقد ترجم بمعنى ذلك في علامات النبوة. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا الشرح: قوله: (عن أنس) زاد في الرواية التي في علامات النبوة أنه حدثهم. قوله: (أن أهل مكة) هذا من مراسيل الصحابة، لأن أنسا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس وهو أيضا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود وجبير بن مطعم وحذيفة وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة لكن في بعض طرقه ما يشعر بأنه حمل الحديث عن ابن مسعود كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في " الدلائل " من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: " اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق". قوله: (شقتين) بكسر المعجمة أي نصفين، وتقدم في العلامات من طريق سعيد وشيبان عن قتادة بدون هذه اللفظة. وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري من حديث سعيد عن قتادة بلفظ " فأراهم انشقاق القمر مرتين " وأخرجه من طريق معمر عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان. قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ " مرتين " أيضا، وكذلك أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق في مسنديهما عن عبد الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ " فرقتين " قال البيهقي: قد حفظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه " مرتين". قلت: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ " مرتين " إنما فيه " فرقتين أو فلقتين " بالراء أو اللام وكذا في حديث ابن عمر " فلقتين " وفي حديث جبير بن مطعم " فرقتين " وفي لفظ عنه " فانشق باثنتين " وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل " فصار قمرين " وفي لفظ " شقتين " وعند الطبراني من حديثه " حتى رأوا شقيه " ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشق مرتين بالإجماع. ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح الصحيحين وتكلم ابن القيم على هذه الرواية فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان أخرى، والأول أكثر. ومن الثاني " انشق القمر مرتين " وقد خفي على بعض الناس فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط فإنه لم يقع إلا مرة واحدة. وقد قال العماد بن كثير: في الرواية التي فيها " مرتين " نظر، ولعل قائلها أراد فرقتين. قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات. ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه: فصار فرقتين فرقة علت وفرقة للطود منه نزلت وذاك مرتين بالإجماع والنص والتواتر السماع فجمع بين قوله: " فرقتين " وبين قوله: " مرتين " فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرا سيأتي بيانه. قوله: (حتى رأوا حراء بينهما) أي بين الفرقتين، وحراء تقدم ضبطه في بدء الوحي وهو على يسار السائر من مكة إلى منى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى فَقَالَ اشْهَدُوا وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ انْشَقَّ بِمَكَّةَ وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الشرح: قوله: (عن أبي حمزة) بالمهملة والزاي هو محمد بن ميمون السكري المروزي. قوله: (عن الأعمش عن إبراهيم) وقع في رواية السرخسي والكشميهني في آخر الباب من وجه آخر عن الأعمش " حدثنا إبراهيم". قوله: (عن أبي معمر) هذا هو المحفوظ. ووقع في رواية سعدان بن يحيى ويحيى بن عيسى الرملي " عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة " أخرجه ابن مردويه، ولأبي نعيم نحوه من طريق غريبة عن شعبة " عن الأعمش " والمحفوظ عن شعبة كما سيأتي في التفسير " عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي عمر " وهو المشهور، وقد أخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة " عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر " وسيأتي للمصنف معلقا أن مجاهدا رواه " عن أبي معمر عن ابن مسعود " فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان أو قول من قال ابن عمر وهم من أبي معمر. قوله: (عن عبد الله) هو ابن مسعود قوله: (انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى) في رواية مسلم من طريق علي بن مسهر عن الأعمش " بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر " وهذا لا يعارض قول أنس أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه فمنى من جملة مكة فلا تعارض، وقد وقع عند الطبراني من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: " انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين " وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد فأخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود قال: " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة " فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع وهم ليلتئذ بمنى. قوله: (فقال اشهدوا) أي اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة. قوله: (وقال أبو الضحى إلخ) يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: " عن إبراهيم " فإن أبا الضحى من شيوخ الأعمش فيكون للأعمش فيه إسنادان، ويحتمل أن يكون معلقا وهو المعتمد، فقد وصله أبو داود الطيالسي عن أبي عوانة، ورويناه في " فوائد أبي طاهر الذهلي " من وجه آخر عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في " الدلائل " من طريق هشيم كلاهما عن مغيرة عن أبي الضحى بهذا الإسناد بلفظ " انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت كفار قريش: هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك " لفظ هشيم، وعند أبي عوانة " انشق القمر بمكة - نحوه وفيه - فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم". قوله: (وتابعه محمد بن مسلم) هو الطائفي، وابن أبي نجيح اسمه عبد الله، واسم أبيه يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة، ومراده أنه تابع إبراهيم في روايته عن أبي معمر في قوله إن ذلك كان بمكة لا في جميع سياق الحديث، والجمع بين قول ابن مسعود " تارة بمنى وتارة بمكة " إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال كان بمكة لا ينافيه لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمنى قال فيها: " ونحن بمنى " والرواية التي فيها بمكة لم يقل فيها " ونحن " وإنما قال: " انشق القمر بمكة " يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادا، والله أعلم. وابن أبي نجيح رواه عن مجاهد عن أبي معمر، وهذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه، ومن طريقه البيهقي في " الدلائل " عن ابن عيينة ومحمد بن مسلم جميعا عن ابن أبي نجيح بهذا الإسناد بلفظ " رأيت القمر منشقا شقتين: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء " والسويداء بالمهملة والتصغير ناحية خارجة مكة عندها جبل، وقول ابن مسعود " على أبي قبيس " يحتمل أن يكون رآه كذلك وهو بمنى كأن يكون على مكان مرتفع بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن يكون القمر استمر منشقا حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة فرآه كذلك وفيه بعد، والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة، لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقا إحدى الشقتين على جبل والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر رأيت الجبل بينهما أي بين الفرقتين لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل وفرقة عن يساره مثلا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضا، وسيأتي في تفسير سورة القمر من وجه آخر عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: " انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشهدوا اشهدوا " وليس فيه تعيين مكان. وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن جريج عن مجاهد بلفظ آخر وهو قوله: " انشق القمر، قال الله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (أن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا أورده مختصرا، وعند أبي نعيم من وجه آخر " انشق القمر فلقتين، قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر " وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام؛ وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوير الشمس وغير ذلك، وجواب هؤلاء إن كانوا كفارا أن يناظروا أولا على ثبوت دين الإسلام ثم يشركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض ألزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبي الله صلى الله عليه وسلم وقد أجاب القدماء عن ذلك، قال أبو إسحاق الزجاج في " معاني القرآن ": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فبه ما يشاء كما يكوره يوم البعث ويفنيه، وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترا واشترك أهل الأرض في معرفته ولما اختص بها أهل مكة، فجوابه أن ذلك وقع ليلا وأكثر الناس نيام والأبواب مغلقة وقل من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا فلم يتأهب غيرهم لها، ويحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم. وقال الخطابي. انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لو وقع ذلك لم يحز أن يخفى أمره على عوام الناس لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة فالناس فيه شركاء والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد، فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله مع جلاله شأنه ووضوح أمره. والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها لأنه شيء طلبه خاص من الناس فوقع ليلا لأن القمر لا سلطان له بالنهار ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر. ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه للاشتراك في إدراكها بالحس، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عاما لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. وذكر أبو نعيم في " الدلائل " نحو ما ذكره الخطابي وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من " الصحابة " وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى إن من وجد عنه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين. ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، ويؤيد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر. ثم أجاب بنحو جواب الخطابي وقال: وقد يطلع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضا فإن زمن الانشقاق لم يطل ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك فجاءت السفار وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبا يكونون سائرين في ضوء القمر ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة ليختص بمشاهدته أهل مكة كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات ونقلوها إلى غيرهم ا ه. وفي كلامه نظر لأن أحدا لم ينقل أن أحدا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على أن الجواب الذي ذكره الخطابي ومن تبعه أوضح، والله أعلم. وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: والذي ذهب إليه الجمهور أصح كما جزم به ابن مسعود وحذيفة وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: بعد ذلك: قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى أ ه. ولقد عجبت من البيهقي كيف أقر هذا مع إيراده حديث ابن مسعود المصرح بأن المراد بقوله تعالى: (وانشق القمر) أن ذلك وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية وَقَالَتْ عَائِشَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب هجرة الحبشة) أي هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة، وكان وقوع ذلك مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وقيل: وامرأتان، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وقيل: عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار، وذكر ابن إسحاق أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأى المشركين يؤذونهم ولا يستطيع أن يكفهم عنهم " إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجا، فكان أول من خرج منهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال. " أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت له. لقد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط". قلت: وبهذا تظهر النكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان، وقد سرد ابن إسحاق أسماءهم، فأما الرجال فهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وأبو حذيفة بن عتبة ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسود وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، قال ويقال بدله حاطب بن عمرو العامري، قال: فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى الحبشة. قال ابن هشام. وبلغني أنه كان عليهم عثمان بن مظعون، وأما النسوة فهن رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وسهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، ووافقه الواقدي في سردهن وزاد اثنين عبد الله بن مسعود وحاطب بن عمرو، مع أنه ذكر في أول كلامه أنهم كانوا أحد عشر رجلا فالصواب ما قال ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب، وأما ابن مسعود فجزم ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما روى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: " بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري " فذكر الحديث. وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولا إلى مكة فأسلم فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله أعلم. وعلى هذا فقول أبي موسى " بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم) أي إلى المدينة، وليس المراد بلغنا مبعثه، ويؤيده أنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد فيه من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك، وإلا فبعيد أيضا أن يخفى عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وأما عثمان بن مظعون فذكر فيهم وإن كان مذكورا في الأول، لأن ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السير ذكروا أن المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحا، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية. وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة على ثمانين رجلا. وقال ابن جرير الطبري: كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم، وشك في عمار بن ياسر هل كان فيهم وبه تتكمل العدة ثلاثة وثمانين، وقيل: إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة. قوله: (وقالت عائشة أريت دار هجرتكم إلخ) هذا وقع بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة كما سيأتي بيانه موصولا مطولا في " باب الهجرة إلى المدينة". قوله فيه (عن أبي موسى وأسماء) أما حديث أبي موسى فسيأتي في آخر الباب، وأما حديث أسماء وهي بنت عميس فسيأتي في غزوة خيبر من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه " بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن - فذكر الحديث وفيه - ودخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة، وقد كانت أسماء هاجرت فيمن هاجر إلى النجاشي " الحديث. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَا لَهُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَهِيَ نَصِيحَةٌ فَقَالَ أَيُّهَا الْمَرْءُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَانْصَرَفْتُ فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ جَلَسْتُ إِلَى الْمِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي فَقَالَا قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ فَقَالَا لِي قَدْ ابْتَلَاكَ اللَّهُ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا قَالَ فَتَشَهَّدْتُ ثُمَّ قُلْتُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتَ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتَ بِهِ وَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَقَالَ لِي يَا ابْنَ أَخِي آدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُلْتُ لَا وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا قَالَ فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَكُنْتُ مِمَّنْ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ كَمَا قُلْتَ وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَبَايَعْتُهُ وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ قَالَ بَلَى قَالَ فَمَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ قَالَ فَجَلَدَ الْوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ مَا ابْتُلِيتُمْ بِهِ مِنْ شِدَّةٍ وَفِي مَوْضِعٍ الْبَلَاءُ الِابْتِلَاءُ وَالتَّمْحِيصُ مَنْ بَلَوْتُهُ وَمَحَّصْتُهُ أَيْ اسْتَخْرَجْتُ مَا عِنْدَهُ يَبْلُو يَخْتَبِرُ مُبْتَلِيكُمْ مُخْتَبِرُكُمْ وَأَمَّا قَوْلُهُ بَلَاءٌ عَظِيمٌ النِّعَمُ وَهِيَ مِنْ أَبْلَيْتُهُ وَتِلْكَ مِنْ ابْتَلَيْتُهُ الشرح: قصة الوليد بن عقبة التي مضت في مناقب عثمان تقدم شرحها مستوفي بتمامه، وفيه قوله هنا: " أن تكلم خالك " والغرض منها قول عثمان " وهاجرت الهجرتين الأوليين " كما قالت و " الأوليين " بضم الهمزة وتحتانيتين تثنية أولى، وهو على طريق التغليب بالنسبة إلى هجرة الحبشة فإنها كانت أولى وثانية، وأما إلى المدينة فلم تكن إلا واحدة، ويحتمل أن تكون الأولية بالنسبة إلى أعيان من هاجر فإنهم هاجروا متفرقين فتعدد بالنسبة إليهم، فمن أول من هاجر عثمان. قوله: (وقال يونس) هو ابن يزيد (وابن أخي الزهري) هو محمد بن عبد الله بن مسلم (عن الزهري) بالإسناد المذكور. وطريق يونس وصلها المؤلف في مناقب عثمان، وأما طريق ابن أخي الزهري فوصلها قاسم بن أصبغ في مصنفه ومن طريقه ابن عبد البر في تمهيده وهو باللفظ الذي علقه المصنف، وهذا التعليق عن هذين وكذا الذي بعده من التفسير في رواية المستملي وحده. قوله: (قال أبو عبد الله بلاء من ربكم إلخ) وقع في رواية المستملي وحده أيضا، وأورده هنا لقوله: " قد ابتلاك الله " والمراد به الاختيار، ولهذا قال: " هو من بلوته إذا استخرجت ما عنده " واستشهد بقوله نبلو أي نختبر، ومبتليكم أي مختبركم، ثم استطرد فقال وأما قوله بلاء من ربكم عظيم أي نعيم، وهو من ابتليته إذا أنعمت عليه، والأول من ابتليته إذا امتحنته، وهذا كله كلام أبي عبيدة في " المجاز " فرقه في مواضعه، وتحرير ذلك أن لفظ البلاء من الأضداد، يطلق ويراد به النعمة، ويطلق ويراد به النقمة، ويطلق أيضا على الاختبار، ووقع ذلك كله في القرآن كقوله تعالى: (بلاء حسنا) فهذا من النعمة والعطية، وقوله: (بلاء عظيم) فهذا من النقمة، ويحتمل أن يكون من الاختبار، وكذلك قوله: (ولتبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) والابتلاء بلفظ الافتعال يراد به النقمة والاختيار أيضا. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِيكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشرح: حديث عائشة " أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة " الحديث كانت أم سلمة قد هاجرت في الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد كما تقدم بيانه، وهاجرت أم حبيبة وهي بنت أبي سفيان في الهجرة الثانية مع زوجها عبيد الله بن جحش فمات هناك، ويقال إنه قد تنصر، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وقد تقدم شرح الحديث في كتاب الجنائز. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ السَّعِيدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ قَدِمْتُ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةٌ فَكَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةً لَهَا أَعْلَامٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ الْأَعْلَامَ بِيَدِهِ وَيَقُولُ سَنَاهْ سَنَاهْ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ يَعْنِي حَسَنٌ حَسَنٌ الشرح: حديث أم خالد بنت خالد وهو ابن سعيد بن العاص بن أمية، وكان أبوها ممن هاجر في الهجرة الثانية إلى الحبشة، وولدت له هناك فسماها أمة وكناها أم خالد، وأمها أمينة بالتصغير ويقال همينة بالهاء بدل الهمزة بنت خلف الخزاعية. قوله: (حدثنا إسحاق بن سعيد السعيدي) هو ابن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، وجد أبيه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأصغر هو ابن عم أم خالد المذكورة، وسيأتي شرح الحديث في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَيَرُدُّ عَلَيْنَا فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا قَالَ إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ كَيْفَ تَصْنَعُ أَنْتَ قَالَ أَرُدُّ فِي نَفْسِي الشرح: حديث عبد الله وهو ابن مسعود، وسليمان في الإسناد هو الأعمش. قوله: (فلما رجعنا من عند النجاشي) قد قدمت من عند أحمد حديث ابن مسعود أنه كان ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية، وتقدم شرح حديث الباب مستوفى في آخر الصلاة، وبينت هناك أن رجوع ابن مسعود من الحبشة وقع لما بلغ المسلمين الذين بالحبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة، فوصل منهم إلى مكة أكثر من ثلاثين رجلا، وكان وصول ابن مسعود إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر، وظهر بما تقدم من أسماء أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة وهم من زعم أن ابن مسعود كان منهم وإنما كان من أهل الهجرة الثانية. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ الشرح: حديث أبي موسى وهو الأشعري قال " بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم " أي مبعثه. قوله: (ونحن باليمن) أي من بلاد قومهم. قوله: (فركبنا سفينة) أي لنصل فيها إلى مكة. قوله: (فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي) كأن الريح هاجت عليهم فما ملكوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة. قوله: في آخر الحديث (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكم أنتم أهل السفينة هجرتان) سيأتي هذا الحديث في غزوة خيبر مطولا، وفيه البيان بأن هذه الجملة الأخيرة إنما هي من حديث أسماء بنت عميس كما أشرت إليه أول الباب والله أعلم. (تكملة) : أرض الحبشة بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدا، وهم أجناس، وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة، وكان في القديم يلقب بالنجاشي، وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح المهملة وكسر الطاء المهملة الخفيفة بعدها تحتانية خفيفة، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير القياس، وقد قالوا أيضا حبشان وقالوا أحبش، وأصل التحبيش التجميع، والله أعلم. الشرح: (باب موت النجاشي) تقدم ذكر اسمه واسم أبيه في الجنائز، وأن النجاشي لقب من ملك الحبشة، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء يعني أنها أصلية لا ياء النسب، وحكى غيره تشديدها أيضا، وحكى ابن دحية كسر نونه. وذكر موته هنا استطرادا لكون المسلمين هاجروا إليه، وإنما وقعت وفاته بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة كما ذكره البيهقي في " دلائل النبوة " وقد استشكل كونه لم يترجم بإسلامه وهذا موضعه وترجم بموته، وإنما مات بعد ذلك بزمن طويل، والجواب أنه لما لم يثبت عنده القصة الواردة في صفة إسلامه وثبت عنده الحديث الدال على إسلامه وهو صريح في موته ترجم به ليستفاد من الصلاة عليه أنه كان قد أسلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ الشرح: قوله: (فصلوا على أخيكم أصحمة) بمهملتين وزن أربعة، تقدم ضبطه في كتاب الجنائز وبيان الاختلاف فيه وأنه قيل فيه بالخاء المعجمة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا تَابَعَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ الشرح: قوله: (عن سليم) هو بفتح أوله. قوله: (تابعه عبد الصمد) هو ابن عبد الوارث أي أن عبد الصمد تابع يزيد بن هارون في روايته إياه عن سليم بن حبان، وقد تقدم بيان من وصله في كتاب الجنائز. الحديث: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى لَهُمْ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ الشرح: قوله: (عن صالح) هو ابن كيسان. قوله: (وعن صالح عن ابن شهاب) هو معطوف على الإسناد الموصول. الحديث: وَعَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّ بِهِمْ فِي الْمُصَلَّى فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا الشرح: قوله: (حدثني سعيد) هو ابن المسيب، ووقع في رواية الكشميهني وحده " وأبو سلمة بن عبد الرحمن " وهو زيادة لم يتابع عليها ولم يذكرها مسلم في إسناد هذا الحديث، وقد تقدم الكلام على مباحث حديثي الباب في كتاب الجنائز. *3* الشرح: قوله: (باب تقاسم المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم) كان ذلك أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة وكان النجاشي قد جهز جعفرا ومن معه، فقدموا والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وذلك في صفر منها، فلعله مات بعد أن جهزهم، وفي " الدلائل " للبيهقي أنه مات قبل الفتح وهو أشبه، قال ابن إسحاق وموسى ابن عقبة وغيرهما من أصحاب المغازي: لما رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضا أصابوا بها أمانا وأن عمر أسلم وأن الإسلام فشا في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتابا أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فشلت أصابعه، ويقال إن الذي كتبها النضر بن الحارث، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، قال ابن إسحاق، فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش، وقيل: كان ابتداء حصرهم في المحرم سنة سبع من المبعث، قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين حتى جهدوا ولم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئا من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، فكان يصلهم وهم في الشعب، ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فكلمه في ذلك فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي وإلى زمعة بن الأسود فاجتمعوا على ذلك، فلما جلسوا بالحجر تكلموا في ذلك وأنكروه وتواطئوا عليه فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة فمزقوها وأبطلوا حكمها. وذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسما لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم. وذكر الواقدي أن خروجهم من الشعب كان في سنة عشر من المبعث، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل. قال ابن إسحاق ومات هو وخديجة في عام واحد، فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب. ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة، لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث " تقاسموا على الكفر". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ الشرح: قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر) هكذا أورده مختصرا، وقد تقدم في الحج من طريق شعيب عن ابن شهاب الزهري بهذا الإسناد بلفظ " قال حين أراد قدوم مكة " وهذا لا يعارض ما في الباب، لأنه يحمل أنه قال ذلك حين أراد دخول مكة في غزوة الفتح، وفي ذلك القدوم غزا حنينا، ولكن تقدم أيضا من طريق شعيب عن الزهري بلفظ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غدا " الحديث، وهذا ظاهر في أنه قاله في حجة الوداع فيحمل قوله في رواية الأوزاعي " حين أراد قدوم مكة " أي صادرا من منى إليها لطواف الوداع، ويحتمل التعدد، وسيأتي بيان ذلك مع بقية شرح الحديث في غزوة الفتح من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى.
|